الاضطراب الوهامي (Delusional Disorder)

كثيرًا ما يتولّد لدينا اعتقاد خاطئ بحدوث أمر ما بسبب ملاحظة بعض الأدلة أو الآثار على حدوثه، أو نقوم بتفسير الأمور بحسب طريقة تفكيرنا بعيدًا عن واقع ما يحدث بالفعل، ونعاود تقييم الأمور بشكلٍ صحيح بمجرّد ما ظهرت الحقائق، ولكنّ الأمر يبدو مختلفًا في حالات الإصابة بالاضطراب الوهامي الذي يكون فيه الوهم والتخيل متكرّرًا ومُضلِّلًا، فما هو هذا الاضطراب؟ وكيف نميّزه؟ في تفاصيل هذا المقال إجابة عن هذه التساؤلات وغيرها. 

فما هو الاضطراب الوهامي؟ 

الاضطراب الوهامي(Delusional Disorder) ، وكان يُطلق عليه أيضًا الاضطراب البارانوي أو الاضطراب الزورانيّ(Paranoid Disorder) ، هو أحد الاضطرابات الذّهانيّة(Psychotic Disorders)  التي يتولّد فيها لدى المصاب أفكار وهمية لا يُمكنه تمييزها عن الواقع، وتستمر معه لفترة طويلة، وهذه الاعتقادات الوهمية تكون ثابتة ولا تتغير عند مواجهة الحقائق أو الأدلة، رغم أنّها غير صحيحة أو ربما تكون غير واقعيّة. 

الأوهام المتولّدة لدى المُصاب بعضها يكون عبارة عن أوهام غريبة؛ أيْ لا يُمكن حدوثها على أرض الواقع، مثل التّعرّض للاستنساخ من قِبَل الكائنات الفضائيّة، أو إذاعة أفكار المصاب على إذاعات الرّاديو، أو اعتقاد المصاب بأخذ شخص ما لأعضائه الدّاخليّة دون وجود ما يُثبت ذلك، بينما تكون بعض الأوهام غير غريبة؛ تتعلّق بأحداث قد تتحقّق في الواقع، كالوهم لدى المصاب بأنّه يتعرّض للمطاردة أو الخداع أو المؤامرات، أو ربما تصديق وجود مشاعر حبّ تجاهه من أحد الأشخاص، فهو يفسّر ما يحدث حوله بشكلٍ خاطئ ومبالغ فيه.

لا تؤثّر الأوهام غالبًا في قدرة المصاب على التّواصل مع مجتمعه ومتابعة حياته باستثناء ما يتعلّق بأوهامه، إذ يتصرّف معظم المصابين عمومًا بشكلٍ طبيعيّ. 

ما هي الأعراض المبكرة للاضطراب الوهامي؟

تظهر على الشخص عدد من الأعراض في المراحل الأولى من الإصابة بالاضطراب، منها:

– الانشغال بمقدار مصداقية أو ولاء الأصدقاء.

– الميل إلى ملاحظة وجود التهديد في الأحداث العادية وبين سطور الكلام.

– الشعور بالتعرّض للاستغلال.

– الاستعداد للرد على الإهانات التي يتوهّم وجودها، وحمل الأحقاد بصورة مستمرّة.

ما الفرق بين الاضطراب الوهامي والفصام؟

في حالات الفصام يعاني المُصاب من أعراض ذهانية مختلفة إلى جانب الأوهام، كالهلاوس، واضطراب الكلام أو السلوك، وصعوبة التعاطف أو صعوبة إظهار ردود الفعل على تعابير الوجه، كما أنّه يُسبّب إعاقة إنجاز المهام اليوميّة الروتينية، أمّا الاضطراب الوهاميّ فهو يظهر على صورة أوهام فقط بلا أعراض أخرى، ولا يتسبّب في تعطيل إنجاز المهام اليومية كما في حالة الفُصام.

ما هي أنواع الاضطراب الوهامي؟ 

يوجد أنواع مختلفة من الاضطراب الوهامي التي تُصنّف بالاعتماد على السمة الأساسيّة لطبيعة الوهم الذي يختبره الشخص، منها:

– هوس العشق أو الهوس الشبقي(Erotomania) ؛ يؤمن المصاب بهذا الهوَس بتولّد مشاعر حب تجاهه من شخصٍ ما (غالبًا ما يكون شخصية مهمّة أو مشهورة)، إذْ يبذل جهده في التّواصل مع الشخص المهووس به، وقد يُقدِم على القيام بتصرّفات مؤذية وخطِرة في محاولةٍ منه إثبات وجود علاقة مع الشخص الآخر. 

– جنون العظمة(Grandiose delusions) ؛ وفي هذا النوع ينتاب المصاب إحساس قوي وحقيقي بالعَظمة والتفوّق على الآخرين، كما وتكون ثقته بذاته وعِلْمِه وقوّته مبالغ بها، حتى أنّه يعتقد باكتشاف شيء مهمّ، أو أنّ لديه موهبة عظيمة. 

– أوهام الغيرة(Jealousy delusions) ؛ إذْ يعتقد المصاب بالغيرة الوهمية بتعرّضه للخيانة من قِبل شريك حياته دون وجود دليل ملموس على حدوث ذلك، وقد يصِل الأمر إلى حدّ الاعتداء الجسديّ على شريكه بسبب هذا الاعتقاد. 

– أوهام الاضطهاد(Persecutory) ؛ حيث يعتقد المصاب في هذه الحالة بتعرّضه للغش أو التخدير أو المتابعة، أو حتى تآمر الآخرين أو تجسّسهم عليه بهدف أذيّته أو مضايقته، فيلجأ إلى تبليغ السُّلطات المعنيّة أو أخذ حقّه بنفسه تجاه الاضطهاد الذي يتوهّمه، وهذا النوع من الاضطراب الوهاميّ هو الأكثر شيوعًا بين الأفراد.

– وهام جسديّ(Somatic) ؛ وفي هذه الحالة يعتقد المصاب بأنّه يشعر جسديًّا بأشياء معيّنة أو يعاني بوجود مشكلة ما في وظائف جسده؛ كوجود حشرات تزحف أسفل جلده، أو أنّه يشمّ رائحة كريهة، أو يعاني من مشكلة صحّيّة عامّة أو تشوّه خلقيّ، أو غير ذلك، وهي عبارة عن أفكار وهميّة. 

– الأوهام المختلطة(Mixed) ؛ إذ يختبر المصاب نوعين أو أكثر من هذه الأوهام في الوقت ذاته، بينما لا يُسيطر أحدهما على الآخر. 

الأوهام غير المخصّصة (Unspecified)؛ عندما تكون الأوهام غير محدّدة بشكلٍ كامل ولا يُمكن وضعها ضمن تصنيف معيّن.

ما هي أسباب الإصابة بالاضطراب الوهامي؟ 

لم يُعرَف حتى الآن السبب الأساسي للإصابة بالاضطراب الوهاميّ، ومع ذلك، يدرس الباحثون بعض العوامل التي قد تلعب دورًا في تطوّره، منها: 

العوامل البيولوجيّة: فربما ينجم عن اعتلال مناطق الدّماغ المسؤولة عن التّفكير والمعرفة الإصابة بالاضطراب وظهور أعراضه. 

– العوامل الوراثيّة: فقد لوحظ ارتفاع فرصة الإصابة بالاضطراب في حالة معاناة أحد أفراد العائلة من الفصام أو الاضطراب الوهامي، كما يوجد اعتقاد بأنّ الميل للإصابة بالاضطراب الوهامي قد ينتقل من الوالدين لأبنائهم. 

العوامل النّفسيّة والبيئيّة المحيطة: إذْ تُشير بعض الدّراسات إلى أنّ الإصابة بالاضطراب قد يتطوّر بتأثير الضّغوطات النفسية، أو تعاطي المخدّرات وإدمان الكحول، أو الميل للعُزلة بسبب ضعف السمع أو النظر أو غيره، أو التعرّض لصدمات نفسية خلال مرحلة الطفولة، أو التقدم بالسن، أو يكون شائعًا بين المهاجرين الذين يحدّهم حاجز اللغة من التواصل مع الآخرين.

ما هي المضاعفات التي قد تنتج عن الاضطراب الوهاميّ؟ 

لا يتسبب هذا الاضطراب دائمًا في ظهور مضاعفات شديدة على المُصاب، ولكنّ الأوهام قد تتفاقم تدريجيًّا، فيؤثّر الاضطراب على المصاب بشكلٍ سلبيّ، فمن الممكن أن يعاني من:

مواجهة مشاكل قانونيّة أو القيام بإيذاء من حوله إن تصرّف بناءً على أوهامه.

الاكتئاب جرّاء المصاعب التي يواجهها بسبب الاضطراب، الأمر الذي قد يدفعه إلى إيذاء نفسه.

ابتعاد الآخرين عنه بسبب تصرفاته، خاصّةً إن كان المصاب يبدي تصرّفات عنيفة وعدوانيّة. 

كيف يتمّ تشخيص الإصابة بالاضطراب الوهاميّ؟ 

عند زيارة الطبيب لتشخيص الإصابة بالاضطراب الوهاميّ فإنّه يبدأ بإجراء الفحص الجسدي والنفسي للشخص الذي يعاني من المشكلة، مع أخذ تاريخه المرضيّ، وقد يلجأ لإجراء فحوصات معيّنة لاستبعاد الأمراض الجسدية التي قد تكون سببًا للأعراض ذاتها، كأنْ يوصي بإجراء الفحوصات المخبرية وفحوصات التصوير، فإن لم يجد سببًا عضويًّا أو دوائيًّا يُثير الأوهام لدى الشخص، فإنّه غالبًا ما يقوم بتحويله إلى الطّبيب النّفسيّ.

إذْ يقوم الطّبيب النّفسيّ بعمل فحص نفسيّ شامل في حال كان المصاب يعاني من الأوهام لمدّة شهر على الأقلّ، يطرح خلاله الأسئلة حول الأوهام ويقيّم الحالة العقليّة للشخص، كما أنّه يجتمع مع أفراد العائلة والأصدقاء لسؤالهم أكثر عن المُصاب وأعراضه، ويكون التقييم والتشخيص في هذه الحالة بحذر لتجنب الخلط بين الاضطراب الوهامي وغيره من الاضطرابات النفسية، مثل الفصام(Schizophrenia) ، والاضطراب ثنائيّ القطب(Bipolar Disorder) ، واضطراب الشّخصيّة الارتيابيّة(Paranoid Personality Disorder) ، واضطراب الشّخصيّة الحدّيّة(Borderline Personality Disorder) ، واضطراب الوسواس القهريّ(Obsessive-Compulsive Disorder) ، والهذيان(Delirium) .

متى يجب مراجعة الطبيب؟

يتوجب على الشخص المُصاب أو المقرّبين منه طلب المساعدة المتخصّصة من الطبيب بمجرّد ملاحظة ظهور أعراض الوهم، إذْ يُساعد التدخل المبكّر والعلاج على تقديم الدعم النفسي وتعزيز تحسّن المُصاب واستجابته للعلاج بصورة أفضل.

كيف يُعالَج الاضطراب الوهاميّ؟ 

العلاج في هذه الحالة يُشكّل تحديًا بالنسبة للطبيب لأنّ المُصاب عادةً ما يُنكر أنّ أفكاره عباره عن أوهام، فيرفض التعاون وطلب المساعدة الطبيّة، وفي حال طُلبت المساعدة، يهدف العلاج إلى تقليل حِدة الأوهام وإدراك أنّها غير حقيقيّة ولا أساس لصحتها، والسيطرة على المضاعفات، وبناء علاقة فعالة ومُجدية بين المُصاب والطبيب أو الأخصائي النفسي، إذْ يضع الطبيب خطّة علاجية تُناسب المُصاب بالاعتماد على تشخيص حالته بدقّة وعلى المشاكل التي يعانيها، ومن أشكال العلاج التي قد يلجأ لها الطبيب في هذه الحالة:

العلاج الدّوائيّ

فالأدوية المستخدمة لعلاج الأوهام قد تساهم في تحسّن المُصاب ولو جزئيًّا، ولتحقيق أكبر فائدة من العلاج غالبًا ما يجمع الطبيب بين العلاج الدوائي والعلاج النّفسيّ.

ومن الأدوية التي قد تُستخدم في هذه الحالات: 

مضادّات الذّهان  (Antipsychotics)التي تعدّ من الأدوية الرئيسية في علاج الأوهام.

أدوية أخرى، فقد يصِف الطّبيب النّفسيّ بعض المهدّئات، أو مضادّات الاكتئاب، أو مضادات القلق، أو غيرها من الأدوية بحسب الأعراض التي يعانيها المصاب ومشاكله الصّحّيّة والنّفسيّة الأخرى. 

العلاج النّفسي

يركّز هذا العلاج على توجيه المصاب وتعريفه عن الاضطراب، وتعليمه كيفيّة التّعامل مع أعراضه، وآلية التّصرّف الصحيحة إذا شَعَرَ بتراجع حالته، ويندرج تحت العلاج النفسي أنواع مختلفة من العلاج المُستخدمة لحالات الاضطراب الوهامي، منها:

العلاج النّفسيّ الفرديّ، حيث يساعد هذا العلاج المصاب على تمييز أفكار المُصاب وتصحيحها. 

العلاج المعرفيّ السّلوكيّ، الذي يساعد على تمييز أنماط التفكير السّلبيّة المؤذية ومصادرها، وتحويلها إلى أنماط تفكير سليم، ويكون النقاش حول الأوهام غير المنطقية لطيفًا وهادئًا. 

العلاج النّفسيّ العائليّ، إذْ يركّز هذا العلاج على تزويد المصاب وعائلته بالمعرفة اللّازمة للتّعامل مع الأوهام، وتحسين مهارات التّواصل ومهارات حلّ المشاكل. 

ويكون إدخال المُصاب إلى المستشفى ضروريًّا إن كانت حالته تدفعه إلى التّصرّف بطريقة عنيفة ومؤذية تجاه نفسه أو من حوله.

كيف أساعد من يعاني من الاضطراب الوهاميّ؟

إنْ كان بين أحبتك من يعاني هذا الاضطراب، يُمكنكَ تقديم المساعدة له بدعمه وتشجيعه لتلقي العلاج، وعدم التردّد في الوقوف إلى جانبه، وتخفيف شعوره بالضغط النفسي قدر المستطاع.

ومع ذلك، يجب عدم إغفال العناية بالنفس والصحة وطلب المساعدة إنْ تطلب الأمر، خاصةً أنّ المقرّبين من المُصاب قد يُعانون من الاكتئاب، أو التوتر، أو العُزلة، أو غيرها من المشاعر السلبيّة التي تستدعي طلب المساعدة.

وختامًا، علاج الاضطراب الوهاميّ مهمّ للمحافظة على جودة حياة المُصاب قدر المستطاع، وما يُفيده في رحلة العلاج بالفعل الاستعداد الكامل لتلقي المساعدة والحصول على دعم العائلة والأصدقاء، ورغم أنّ الاضطراب الوهاميّ يعدّ اضطرابًا مزمنًا، إلّا أنّ تحسُّن الأعراض يكون ملحوظًا مع استمرار العلاج والانتظام عليه، ومن واجبنا كأفراد مجتمع عدم إطلاق الأحكام المتسرّعة على المصابين بالاضطرابات النفسية، وتقديم الدّعم والمساعدة لهم، والابتعاد عن التعامل السلبي معهم.

*** تمت الكتابة والتدقيق من قبل فريق إعداد المحتوى

المراجع:

Facebook
Twitter
LinkedIn
Email

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *