الاكتئاب الجزئي (Dysthymia)

تُصادفنا مواقف وظروف صعبة في حياتنا اليوميّة تكون سببًا في انحصارنا داخل دوامة الأحزان والشعور بالسوداوية وعدم القدرة على مواجهة الناس والتحدث معهم، فكما نعلم الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، ولكنّنا سرعان ما نتحسن ونعود لطبيعتنا وحياتنا كما كانت من قبل، ولكنْ عندما تعاني الاكتئاب فإنّك تدخل في حالة حزن شديد تستمر لفترة طويلة، فتكون مربكة للأعمال وإنجاز الأنشطة الاعتيادية، وعليْه، سيدور الحديث في هذا المقال حول الاكتئاب الجزئي على وجه الخصوص، ومحاور عديدة متعلّقة به. 

ما هو الاكتئاب الجزئي؟

الاكتئاب الجزئي (Dysthymia) أو الاكتئاب الخفيف أو اضطراب عسر المزاج، أو كما يُعرف أيضًا بالاضطراب الاكتئابي المستمر (Persistent depressive disorder)؛ هو أحد أشكال الاكتئاب المزمنة والمستمرّة التي تظهر على صورة انخفاض في الإنتاجيّة، وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليوميّة، وضعف في الثقة بالنفس، وفقدان الأمل وشعور بالعجز، والذي قد تستمر أعراضه لفترات طويلة قد تصل إلى سنتين أو أكثر، ويُشار إلى أنّ المُصابين بهذا النوع من الاكتئاب تكون أعراضهم خفيفة مُقارنةً بأعراض اضطراب الاكتئاب الشديد، ولكنْ قد تمرّ عليهم فترات يعانون فيها من اضطراب اكتئابي رئيسي (Major depression) على شكل نوبات، وقد يُصنَّف هذا النوع على أنه اكتئاب مزدوج (Double depression).

وبما أنّ الاكتئاب الجزئي يستمر لفترات طويلة فهو قد يؤثّر بشكلٍ أكبر على إنجاز الأنشطة اليومية والعلاقات مع الآخرين، فيكون من الصّعب الاندماج في المناسبات السّعيدة، وقد يوصَف الشخص بأنه كئيب أو متذمّر أو قاتل للمُتعة، رغم أنّ اضطراب المزاج في هذه الحالة خارج عن الإرادة ولا يُمكن السيطرة عليه دون علاج طبي متخصّص، وهو مختلف تمامًا عن تغيّر الحالة المزاجية الطبيعي الذي نواجهه في حياتنا اليومية، إذْ نكون في لحظات معيّنة غير سعداء أو نعاني تعكّر المزاج لأسباب معيّنة. 

ما أعراض الاكتئاب الجزئي؟

تظهر أعراض الاكتئاب الجزئي وتختفي باستمرار وعلى مدار سنوات عِدة، غير أنها لا تختفي عادةً لأكثر من شهرين متواصلين في المرة الواحدة، وفي الأثناء تتغير شِدة هذه الأعراض مع الوقت، وقد تكون سببًا في ظهور مشكلات عِدة، مثل:

– فقدان الاهتمام بإنجاز الأنشطة اليوميّة الاعتياديّة.

– الحزن أو الفراغ أو الشّعور بالإحباط، وقد يستمر الحزن والمزاج المعكّر مُعظم اليوم أو خلال يوم كامل.

– فقدان الأمل أو القيمة، أو الشعور بالذنب كل يوم تقريبًا.

– الإرهاق وفقدان الطاقة.

– فقدان الثّقة بالنّفس والشّعور بالعجز .

– مواجهة مشاكل في التّركيز والقدرة على اتّخاذ القرار.

– الشّعور بالغضب الشّديد والهياج والمزاج السيء.

– انخفاض النّشاط والإنتاجيّة. 

– تجنّب الانخراط في الأنشطة الاجتماعيّة.

– فقدان الشهيّة أو الإفراط في الأكل، وقد يحدث تغيير كبير في الوزن (خسارة أو زيادة الوزن).

– مواجهة مشاكل في النّوم؛ فيعاني من الأرق أو يميل إلى النّوم عدد ساعات أكثر كل يوم.

– عدم الاستمتاع في اللحظات التي كانت مُمتعة يومًا ما.

– تكرار التفكير بأذية النفس أوالموت والانتحار، أو التخطيط للانتحار، أو الإقدام على الانتحار.

ما هي أسباب الاكتئاب الجزئي؟

لم يُحدّد الخبراء المسبّب الأساسي لهذا الاضطراب، ولكنْ ثمّة عوامل وأمور قد تلعب دورًا في ظهوره، مثل: 

الجينات والوراثة: فهي قد تلعب دورًا في تطور الاكتئاب، ومع ذلك، وُجد أنّ الكثير من المُصابين ليس لديهم تاريخ عائلي للإصابة بالاكتئاب، كما أنّ بعض الأشخاص لا يعانون من مشكلات الاكتئاب في حين أنّ لديهم في عائلتهم أفرادًا يعانون منه.

– كيميائيّة الدّماغ: فاضطراب الوظائف في الدماغ أو في التوصيل بين الخلايا العصبية في أجزاء الدماغ لتنظّم المزاج، قد يلعب دور في تطوّر الاكتئاب.

– التعرّض لصدمات أو ضغوطات نفسيّة: مثل فقدان الأحبة أو التعرّض لأزمات ماليّة، أو غيرها من الأحداث التي قد تُحفّز الإصابة بالاكتئاب الجزئيّ عند البعض.

الارتجاج الدماغي: فإصابات الدماغ قد تكون سببًا للإصابة بالاكتئاب الجزئي.

– الاختلافات البيولوجية: فالأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الجزئي قد يكون لديهم تغيرات فيزيائية داخل أدمغتهم، ومع ذلك، لم تُفسّر حتى الآن علاقة هذه التغيرات بحدوث الاكتئاب. 

ما عوامل خطورة الإصابة بالاكتئاب الجزئي؟

ثمّة عوامل معينة تزيد من فرصة الإصابة بهذا الاضطراب، منها:

– وجود تاريخ عائلي للإصابة باضطراب الاكتئاب الجزئي.

– وجود تاريخ مرضي للإصابة بأمراض نفسيّة أخرى؛ كالقلق، واضطراب ثنائي القطب.

– المعاناة من أمراض مزمنة؛ مثل السّكري، وأمراض القلب.

– التعرّض لضغوطات شديدة أو مواجهة مشكلات في العلاقات أو العمل.

– تعاطي المخدّرات.

كيف يتم تشخيص الاكتئاب الجزئي؟

يقوم الطبيب أو المُستشار النفسي بتشخيص هذا الاضطراب باتباع خطوات معينة، كأنْ يقوم بالآتي:

– عمل فحص جسدي شامل، وربما طلب إجراء فحوصات مخبريّة معينة تساعد على استثناء الإصابة بأمراض واضطرابات أخرى قد تكون السبب وراء ظهور الأعراض، وهنا لا بدّ من التأكيد على عدم توفر فحص دم أو اختبار تصوير يساهم في تشخيص الاكتئاب الجزئي.

– إجراء تقييم نفسي وأخذ التّاريخ المرضيّ من قِبل الأخصائي النفسي، وقد يتضمن ذلك طرح مجموعة من الأسئلة المدروسة، واعتماد إجاباتها للمساعدة على تشخيص الاضطراب.

وعمومًا، يعتمد التّشخيص بشكل أساسي على الأعراض التي يعانيها الشخص، فهي أعراض اكتئاب تستمر لفترات أطول وتكون أخف مقارنةً باضطراب الاكتئاب الرئيسي، فالبالغين لا بدّ أنّ تستمر أعراض الاكتئاب الجزئي لديهم لمدّة سنتين أو أكثر وبصورة يوميّة، أمّا الأطفال والمراهقين، فلا بدّ أنْ تظهر عليهم أعراض الهياج والمزاج المُكتئب مُعظم الأيام ولمدّة لا تقل عن سنة. 

كيف يُعالَج الاكتئاب الجزئي؟

فهو من الاضطرابات التي تستجيب للعلاج بشكلٍ كبير، ويُعدّ التشخيص والعلاج المبكّر في هذه الحالة خطوةً أساسية تساهم في تخفيف شدّة الأعراض واستمرارها، وتقليل فرصة ظهور نوبات الاكتئاب الشديدة، وهنا يجب التأكيد على أنّ الطبيب النفسي هو الشخص المخوّل بوضع الخطّة العلاجية التي تلائم المُصاب، ولا بدّ من اتباع تعليماته بحذافيرها في هذا الخصوص. ومن خيارات العلاج المُتاحة:

العلاج الدوائي

تتوفّر أنواع مختلفة من مضادات الاكتئاب التي قد يصِفها الطبيب في هذه الحالة، لذلك، يقوم الطبيب أولًا بدراسة الوضع النّفسيّ والجسديّ والكشف عن أيّة اضطرابات أو أمراض اخرى تعانيها، بهدف اختيار مضاد الاكتئاب الأكثر فعاليّة والذي يحمل أقل آثار جانبيّة.

ومن الجدير بالذكر أنَّ الفعالية الكُليّة لهذه الأدوية قد تظهر بعد مرور فترة لا تقل عن 4-6 أسابيع، وهذا يعني أنه من الضروري الالتزام بتناول الأدوية كما يصِفها الطبيب وعدم وقف استخدامها لعدم الصبر واستعجال النتائج، ومن الضروري مراجعة الطبيب المختصّ في حالة وجود أيْ مشاكل أو استفسارات حول الدواء، فربما يوصي الطبيب بتغييره أو تعديل جرعته أو إضافته لدواء آخر.

العلاج النّفسي

الذي يركّز على تغيير النظرة المشوّهة للذات وللبيئة المُحيطة، وتحسين مهارات التواصل وبناء العلاقات، والسيطرة على المواقف الصعبة وتمييزها، ومن الأمثلة على أنواع العلاج النفسي المُتبعة، ما يُعرف بالعلاج النفسي بين الأشخاص (Interpersonal psychotherapy)، والعلاج المعرفي السلوكي (Cognitive behavioral therapy)، ويُذكر بأنّ العلاج النفسي يُعتبر من أنواع العلاجات الضرورية في حالات الاكتئاب الجزئي، خاصةً وأنّ الاضطراب يستمر لفترات طويلة، ومن المُحتمل أنْ يجمع الطبيب بين كل من العلاج الدوائي والنفسي في آنٍ واحد.

يقوم العلاج النفسي على مساعدتك فيما يلي:

-تغيير سلوكياتك التي تجعل اكتئابك أسوأ.

-حل المشكلات والتعامل معها والتكيف مع الأزمات والصعوبات.

-تطوير علاقات إيجابية مع الآخرين.

– استبدال المعتقدات السلبية بالإيجابية.

-استعادة الإحساس بالرضا والتحكم في حياتك وتعلم وضع الأهداف الواقعية لحياتك.

نصائح قد تساعدك في حالات الاكتئاب الجزئي

شعورك بانعدام القيمة وفقدان الثقة بالنفس إذا كنتَ تعاني الاكتئاب ليس حقيقيّ، لذلك لا تستسلم للمرض، والتزم بالخطّة العلاجية التي وضعها طبيبك، وفي الأثناء احرص على اتباع النصائح الآتية: 

– اطلب المساعدة من الطبيب أو المُعالج النفسي إذا شعرت بأنّكَ مكتئب ولا تتحسّن مع العلاج.

-التزم بخطتك العلاجية ولا تفوت جليات العلاج النفسي أو جرعات أدويتك حتى لو كنت تشعر بالتحسن.

-تعرّف على ما يحفز أعراضك وجهز خطة للتعامل معه، وضع خطة أيضًا لتعف ما يجب عليك فعله في حالة عودة الأعرض أو ازديادها سوءًا.

– حدّد لنفسك أهداف واقعيّة يُمكنكَ تحقيقها، ولكن لا ترهق نفسك لإنجازها.

– قسّم المهام الكبيرة إلى مهام أصغر، وقم بإنجازها حسب الأولوية وبقدر المُستطاع.

– أحِط نفسك بأشخاص تُحبّهم وتثق بهم لمناقشتهم حول ما تعانيه، حتى ولو كان شخص واحد.

– قم بالأشياء التي تحسن من نفسيتّك؛ كمشاهدة فيلم، أو إنجاز أعمال البستنة، أو المشاركة في أنشطة اجتماعية أو دينيّة أو أي أنشطة أخرى تناسبك، وحاول اتباع تصرفات وسلوكيات تُدخل السعادة على قلوب من حولك. 

– التزم بممارسة التمارين الرياضيّة، كممارستها ثلاث مرات أسبوعيًّا على الأقل.

– لا تستعجل نتائج تحسّن المزاج أثناء العلاج، بل أعطِ لنفسك الوقت الكافي، وتذكر أنّ التعافي الكامل من الاكتئاب قد يكون صعبًا، ولكنّه يتحسّن بالتأكيد مع الوقت.

– حاول تأجيل اتخاذ القرارات الكبيرة إلى حين التعافي من الاكتئاب والشعور بالتحسّن، سواءً كان زواج، أو تغيير وظيفة، أو الطّلاق، كما يفضّل مناقشة مثل هذه الأمور مع أشخاص لديهم معرفة جيدة بك. 

– احرص على تناول وجبات متوازنة غنيّة بالمصادر الغذائية الصحية الطبيعيّة، كالفواكه والخضراوات.

– امتنع كُليًّا عن شرب الكحول أو تعاطي المخدرات أو تدخين السجائر، فهذه المواد قد تكون سببًا في تفاقم ما تعانيه من أعراض.

– الجأ لممارسة اليوغا أو التأمل، أو ربما الانخراط في هواية تفضلها؛ كالكتابة في مجلة.

وفي النهاية، الاكتئاب قد يكون من المشكلات التي تنعكس سلبًا على حياتكَ وحياة من حولك، ولكنّه أيضًا يستجيب بشكلٍ كبير للعلاج النفسي والدوائي ويتحسن مع الوقت، لذلك احرص دائمًا على عدم تجاهل ما تعانيه من أعراض، واطلب المساعدة في أقرب فرصة تُتاح لك، وكُن على ثقة بأنّ التزامك بالخطّة العلاجية سيؤتي ثماره في أيّ وقت، فلا تتعجّل النتائج ولا تستسلم لليأس.

*** تمّت الكتابة والتدقيق من قِبَل فريق إعداد المحتوى

المراجع:

Facebook
Twitter
LinkedIn
Email

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *