يطْغَى شعورُ الارتياب على كثيرٍ من جوانِب حياتِنا، فنحنُ نفتِقِدُ بالطبعِ القدرَةَ على التنبُّؤِ بالمستَقبَل، ونسعَى إلى أن نَكُونَ دائمًا مُلمِّين بما يتوجَّبُ علينا فِعلُه أو عدَمِ فِعلِه، وما ينتظِرُنا خِلالَ مسيرَةِ حياتِنا وخطواتِنا القادِمة، وكمثالٍ ليسَ ببعيد، في سنة 2020، ومَع انتشارِ جائِحَةِ كورونا، تملّكَ العديدُ من الأفرادِ شعورًا مستمِرًّا بفقدانِ اليقين، لما حملَتْهُ هذهِ المرحلة من تغيُّراتٍ مفاجِئة، وتطورٍ سريع على مُختلفِ الأصعِدة، إن ما علينا معرفِتُه هو أنَّ الارتياب يؤثِرُ علينا جميعًا بشكلٍ مختلِف، وقد يُثيرُ ردودَ فِعلٍ عاطفيّة متضارِبة، فكيفَ يُمكِنُ التعامُل مع شعورِ الارتياب بطريقةٍ سليمة؟ سنجيبُ في هذا المقالِ عن هذا التساؤل.
ما هو شعورُ الارتياب؟
يمكنُ تعريفُ الارتياب أو عدم اليقين (Uncertainty) على أنَّهُ شعورٌ مؤلِم بِعدَمِ القُدرَةِ على التنبؤ بنتيجةٍ معينةٍ في المستقبل، أو التخطيطِ له، أو التحكُمِّ به، سواءً كان ذلك يتعلّق بأمورٍ ماليّة أو اقتصاديّة أو صحيّة أو العلاقاتِ الاجتماعيّة، وذلك بسبَّبِ محدوديَّةِ المعرِفَةِ حولَ الحَدَث، لهذا السبَّبِ قد يُولِّدُ الارتيابَ إحساسًا بالقلق والتوتُر وفقدانِ الحيلَةِ فيما يتعلَّقُ بصيرورةِ الحياة، وربما يكونُ أيضًا سببًا في استنزافِ العواطِف، والدخولِ في دوامَةٍ لا متناهية من توقُّعاتِ المستقبل المجهولة، والتفكيرُ في أسوأ الظروف والأحداثِ التي قد يجلِبُها الغد، فالإنسانُ بطبيعتِه يتعطَّشُ لشعورِ الأمان والتمكُّنِ من السيطرةِ على رفاهِيتِه وحياتِه، والمُعظَمُ يميلُ إلى اتباعِ الروتينِ المُعتاد.
كيف يمكنُ التعامُل مع شعورِ الارتياب؟
إنَّ الارتيابَ يؤثِرُ علينا بشكلٍ مختلف، ويعتمدُ ذلك على تأثيرِ عواملٍ فرديَّة أو ثقافيَّة أو مجتمعيَّة، فالبَعضُ يعيشُ أجواءَ الاستمتاعِ بالمُخاطرَةِ، وحدوثِ غيرِ المتوقَّعِ دائمًا، بينما يكونُ الارتياب وعدمُ اليقينُ بالأحداثِ والنتائِج وعشوائِيَتُها مُؤلِمًا لدى البعضِ بدرجةٍ كبيرة، ويؤثِرُ على المزاجِ وأنماطِ النوم والأكل، وهذا يتضمَّنُ نِسبَةً كبيرةً من الأفرادِ، ورغمَ الشعورِ بالعَجزِ واليأسِ وعدمِ القدرَةِ على تغييرِ الأمرِ غيرِ المتَوقَّعِ حدوثِه، يمكنُ اتباعُ خطواتٍ معينة للتعامُلِ السليم مع شعورِ الارتياب، والقدرَةِ على مواجَهةِ المجهول بثقةٍ أكبر، ومنها ما هو موضّح في التالي:
– التعاطُف مع الذات: ويكونُ ذلك بإنكارِ أو قمعِ المشاعِر السلبيَّة والخوفِ بشأنِ الظروفِ الخارِجَةِ عن السيطرَةِ في حالِ كانَ التأقلُم مع شعورِ الارتيابِ صعبًا، والابتعادُ عن محاولةِ إظهارِ الإيجابيّة المزيَّفة والوجهِ الشُجّاع في تلك اللحظات، كما يجِبُ الصبرُ ومحاولَةِ إقناعِ النفسِ بأنَّ المواقِفَ المُجهِدة قد يستغرِقُ تحسُّنِها بعضُ الوقت، ولكنَّها لا بدَّ أن تنتهي.
– توجيهُ القلق غيرَ المُجدي نحو حل المشكلة: إذ لا بدّ من التركيزِ على الظروفِ الشخصيّة والسّمات التي تقعُ ضمنَ حدودِ السيطرة، وليسَ نحو الأشياءِ التي لا يمكنُنا التحكُّمَ بها مهما حاولنا، فمثلًا، في حالاتِ فقدانِ الوظيفةِ أو مصدرَ الدخل خِلالَ ظرفٍ صعب لا يُمكِنُ توقُّعِ تطوّراتِه، يمكن تكثيفُ الجهدِ نحو البحثِ عن وظيفَةٍ جديدة، وإرسالِ السيرَةِ الذاتيّة لعددٍ من المعارِف والشَرِكات، أمّا القلقُ بشأنِ الصحّة، فيمكنُ التعامُل معهُ بتخفيفِ التوتُر، وتقديمِ الدعمِ للمقرَّبين، والسيطرَةِ على الأعراضِ الصحية، حتى القلقِ بشأنِ طبيعةِ الوجباتِ التي يمكنُ تناولُها في كلِ وجبَةٍ، يمكنُ السيطرَةُ عليه بوضعِ جدول يوضِّحُ ما يمكنُ أكلُه في كلِّ وجبةٍ، أو القبولِ بفكرَةِ إمكانيِّةِ إيجادِ ما يمكنُ تناولُه في موعِدِ الحُصولِ على وجبَةِ الطعام، ومع ذلك، بعضُ الظروفِ قد تتطلَبُ الاكتفِاء بتغييرِ الاستجابَةِ العاطفيَّة والموقِفِ تجاهَ هذا الظَرف.
– تحديدُ ومعرِفةِ الارتياب: فمنَ الصّعبِ التعامُل والتأقُلُم مع شيءٍ غيرِ محدَّد، لذلك يُنصحُ بتدوينُ الأمورِ التي تشعُرُ بعدَمِ اليقينِ بشأنِها، للتَمكُّنِ من ملاحَظَتِها أولًا بشكلٍ أوضَح والتعامُل معها، وتخفيفُ بعضِ التوتُّر، وكمثالٍ على الأمورِ التي يمكِنُ الشعورُ بعدَمِ اليقينِ بشأنِها: “أنا لستُ متأكِدًا مِنْ أنَّ أحوال عائلتي جيِّدَة” أو “لا أعلمُ متى تنتهي هذهِ الجائِحة”.
– تحدّي السلوكيّات المُتَّبعة بسببِ الحاجةِ لليقين والقلق بشأن كلّ سيناريو محتمل حدوثُه: مثلًا محاولَة تنظيمِ الأمور، والسّعيِّ الزائِد إلى طلَبِ الطَمأنة مِنَ الآخرين، والسؤالُ المتكرِّر عن اتّخاذِ القرارِ الصحيح، والاستمرارِ بفحْصِ الأشياءِ مِرارًا وتِكرارًا للتأكُدِ من كونِها آمنة، والمُمَاطلة وعدَمِ اتّخاذِ القرار، ولتحدّي السلوكِ المُتَّبَع لتخفيفِ الانزِعاجِ بسبَبِ الارتياب يمكنُكَ طَرْحُ بعضِ الأسئِلَةِ على نفسِك، هل تعتَقِد بأنَّ الأشياءَ السيِّئة حَدثَتْ فقَط لأنَّ النتيجَةَ لمْ تكُن معروفَةً؟ وما هو احتمالُ حدوثِ ذلك؟ كم نسبة اليقين لديك فيما يتعلَّقُ بأمورِ حياتِك؟ ما هي فوائِدُ اليقين وما مضارُّه؟ فالأشياءُ الجيّدة قد تحدُثُ إلى جانِبِ الأمورِ السيِّئة، والحياةِ مليئَةٌ بالمُفاجآت، وهذا لا يعني دائمًا أنَّها مفاجآتٌ سيِّئة، وتوقُّع سيرِ الحياة لا يعني دائمًا إمكانيَّة التحكُّم بالمواقِف وتَطوُّرِها.
– وضعُ كل شيءٍ في منظورهِ الصحيح: إذ يتوجَّبُ على الشخصِ أثناءَ التفكيرِ والتركيز على الأشياءِ التي ليسَ لديهِ يقينٌ كافي تِجاهها التأكُد ما إن كانت الأفكارُ واقعيَّة أم لا، إذ يزدادُ الشعورُ بالتوتُر والقلق بسببِ الارتِيابِ أحيانًا تِجاهَ أفكارٍ أو أمورٍ لا تُشكِّلُ أيَّ تهديدٍ، وإنَّما يكونُ التفكيرُ مُشوَّهًا في تِلكَ اللحظاتِ عن غيرِ قصدٍ ويغذِّي المشاعِرَ السلبيَّة، كما هو الحالُ معَ القفزِ إلى الاستنتاجاتِ، أو الحُكمِ على شيءٍ أنَّهُ سيكونُ كارثي، أو التفكيرُ في جانبٍ واحد دونَ الأخذِ بالاعتباراتِ الأخرى، مع عدمِ وجودِ أي أدلَّةٍ تُثبِتُ طريقَةَ التفكيرِ المُزعِجة.
– محاولةُ تطويرِ المهاراتِ الجديدة: مثلَ محاولَةِ القيامِ بالأشياءِ التي تقَعُ خارِجَ منطقَةِ الراحة، سواءً بتجرَبَةِ رياضةٍ جديدة، أو مواجهَةِ الرئيسِ الصَعب في العَمل، فالمُخاطرَةُ تساعِدُ على تطويرِ المهاراتِ والثقةِ التي تكونُ مصدرًا للمساعدةِ في حالةِ انحرافِ مسارِ الحياةِ عنِ الطريقِ السليم.
– محاولةُ تقليلِ متابَعةِ الأخبارِ قدرَ الإمكان: في حالِ كانت تُسبِّبُ التوتُرَ والقلق وتُثيرُ شعورَ الارتياب، وفي هذهِ النقطَةِ يبدو أنَّ محاولَةَ عدَمِ الالتفات بشكلٍ قهري للأخبارِ الجديدَةِ سيكونُ صعبًا، ولكن على الأقل يمكِنُ تجنُّبِه في أوقاتِ الضَعفِ والضغطِ النفسيّ، مثلَ الوقتِ الذي يسبِقُ موعِدَ الخلودِ إلى النوم.
– محاولةُ تقديمِ النصيحَةِ للنفس: بتخيُّلِ الموقِف الذي يُثيرُ شعورَ الارتيابِ من بعيد، ومحاولَةِ إعطاءِ وِجهَةِ نظرٍ وأفكارٍ جديدة، كما لو كانَ شخصًا لديهِ نفسُ طبيعةِ القلق الذي تُعانيه، ويطلبُ المساعدَةِ منك، فما طبيعةُ النصائِح التي يمكِنُ تقديمُها في هذهِ الحالةِ له؟
– محاولةُ العنايَةِ بالنفس: من خِلال محاولَةِ تجنُّبِ التوتُّر قدرَ الإمكان، وممارسَةِ اليوغا أو التأمُل لتخفيفِه، كذلِكَ الحِرصُ على تناولِ الغذاء الصحِّي والمتوازِن الذي يُساعِدُ على تحقيقِ التوازُن الغذائيّ، والابتعادُ عن تناول المأكولاتِ الغنيَّة بالسُكَر والأطعِمة المُعالَجة، والانتِظامُ على ممارسَةِ التمارينَ الرياضيَّة، والنومَ لوقتٍ كافٍ يوميًّا.
– تدوينُ الأشياءِ التي يمكنُ الشعورُ بامتنانٍ لوجودِها، وتسجيلها كمفكّرات يوميّة: إذ يمكِنُ إلقاءُ الضوءِ على كافَّةِ الأشياءِ التي قد تخطُرُ بالبال ولا تكونُ مصدرًا للقلق والاهتمامِ رُغْمَ الامتنانِ لوجودِها، سواءً كانت أمورًا صغيرة أو أمورًا كبيرة، كما يفيدُ أيضًا التركيزُ على تفاصيلِ الأشياء وعدمِ الاهتمامِ فقط بالأشياءِ الواضِحة، وتوضيحُ سبَبِ الامتنانِ لوجودِ هذهِ الأشياء.
– محاولةُ التركيزِ على الحاضر وما يحدثُ في الوقت الحالي: خاصةً أن الارتياب يتعلَّقُ دائمًا بالأشياءِ والأمورِ التي تحدُث في المستقبل، وهو شعورٌ سيء قد يكونُ سببًا في تطوُّرِ فقدانِ الأمَل والاكتِئاب، وعدمِ القدرَةِ على اتّخاذِ أيِّ إجراءاتٍ للتغَلُب على المشكِلَةِ بسبَبِ المبالغة في تضخيمِ المشاكِل، لذلِكَ قد يساعِدُ الارتِباطَ بأحداثِ الحاضِر على منعِ التوقُعاتِ السلبيَّة، ومحاولَةُ إخراجِها مِنَ الرأس، ويمكِنُ ذلك باتّباعِ طريقَةِ اليقِظَة الكامِلة(Mindfulness)، وممارسَةِ الرياضَةِ بانتِظام، مع ضرورَةِ الإصرارِ ومحاولَةِ تركيزِ الانتباه لِلَحْظَةِ الحاليَّة، ومن الطّرق السريعة التي يمكِنُ اتباعُها للتعامُلِ مع شعورِ الارتياب ولفتِ الانتباهِ للحاضِر: التنفسُ العميق، ومحاولة التعرُّفِ على خمسةِ أشياءٍ يمكِنُ رؤيتُها، وأربعةُ أشياءٍ يمكِنُ سماعُها، وثلاثةُ أشياءٍ يمكِنُ شمُّها، وشيئينِ يمكِنُ الإحساسُ بهما، وشيءٌ واحدٌ يمكِنُ تَذَوُّقُه.
– طلبُ المساعدَة من الأشخاصِ الذينَ يمكِنُ الوثوقُ بِهِم: فإنَ الحصولَ على الدعمِ الاجتماعي، والتواصُل مع العائِلَةِ والأصدِقاء، يُعَدُّ من الخطواتِ الضروريَّة التي يجبُ عدمُ تهميشُها في حالاتِ التوترِ والقلَق.
– الحصولُ على الاستشارَةِ من أخصائي الصحّة النفسيّة: في حالةِ عدمِ القدرَةِ على التأقُلم مع مشاعِر الارتياب والسيطرَةِ على التوتُّر، خاصةً وأنَّ مستشاري الصحَّةِ النفسيّة لديهِم القدرَةُ دائمًا على تقديمِ النصائِح والطُّرُقِ السليمةِ التي تساعِدُ على التأقلُم مع التوتُّر.
– التعامُل مع شعورِ الارتيابِ بالقناعةِ الدينيّة والإيمان: محاولَة تذكُّر دورِ الإيمانِ في التخفيفِ من القلقِ والتوتُّر والضغطِ النفسي بشأنِ الأحداثِ التي لا يمكِنُ توقُعِها أو اليقينُ بها.
إنَّ التعامُلَ مع شعورِ الارتياب قد يكونُ صعبًا في البدايةِ، ولكنَّهُ ممكِن، حتى وإن كانَ طاغيًا على مشاعِرِك وسببًا في دخُولِكَ دوامةَ القلقِ والتوتُّر والشعورِ بعدمِ الراحةِ، ما عليكَ سوى الاعترافُ بأنّكَ تعاني من شعورِ الارتياب حولَ أمورٍ معيّنة، ولا بأسَ بذلك، ثُمَّ الانتقالُ لمرحلةِ اتّباعِ الطُرقِ السليمَةِ التي تساعِدُك على التخلُصِ منه، وفي حالِ واجهتَ مشكلاتٍ في مقاومَةِ هذا الشعورِ والسيطرَةِ عليه، يمكِنُ طلَبُ المساعدَةِ من الأخصائِّي النفسيّ، والأخذِ بمشورَتِه، واتّباعُ تعليماتِه.
*** تمّت الكتابة والتدقيق من قِبَل فريق إعداد المحتوى.
المراجع: