الصمت الانتقائي (Selective Mutism) 

هل يفشل طفلك في التحدث في بعض المواقف المعينة على الرغم من قدرته على ذلك في المنزل؟ قد يكون اضطراب الصمت الانتقائي هو السبب. في الحقيقة، لا تعرف الاضطرابات النفسية عمرًا محددًا، فقد تصيب الأطفال والمراهقين والشباب والمسنين، وقد يصيب بعضها فئة معينة دون غيرها، أو ينتشر بين أعمار معينة أكثر من انتشاره في غيرها.. فعلى سبيل المثال، يعتبر اضطراب الصمت الانتقائي هو أحد الاضطرابات التي تظهر في فترة الطفولة وقد تمتد لمرحلة المراهقة إن بقيت الحالة دون علاج.

ما هو اضطراب الصمت الانتقائي ؟

الصمت الانتقائي أو الخرس الانتقائي (Selective Mutism)  هو شكل من أشكال اضطراب القلق المعقد الذي يصيب الإنسان في مرحلة الطفولة، ويتميز بعدم قدرة الطفل على التحدث والتواصل بشكل فعال في أماكن اجتماعية معينة تتطلب الاحتكاك بالآخرين مثل المدرسة أو النوادي الترفيهية أو غيرها، على الرغم من قدرة الأطفال المصابين به على التحدث والتواصل في أماكن أخرى يشعرون فيها بالراحة والأمان (كالمنزل على سبيل المثال). لا يرفض الأطفال التحدث في هذه الحالة لإنهم يرغبون في ذلك، ولكن لأنهم غير قادرين على الكلام بالمعنى الحرفي.

كيف تكون معاناة الأطفال المصابين باضطراب الصمت الانتقائي ؟

يرتبط اضطراب الصمت الانتقائي باضطرابات نفسية أخرى، إذ يعاني أكثر من 90 ٪ من الأطفال المصابين به من الرهاب أو القلق الاجتماعي أيضًا؛ ويُعَد هذا الاضطراب مؤلمًا ومتعِبًا للأطفال والمراهقين المصابين به، فيتملّكُهم خوف حقيقي من التحدث وحضور المناسبات الاجتماعية التي يُتوقع منهم التحدث فيها والتواصل مع الآخرين، كما يعاني العديد من الأطفال المصابين بهذا الاضطراب من صعوبة كبيرة في الاستجابة أو بدء عملية التواصل غير اللفظية، لذلك يتجنب كثير منهم المشاركة الاجتماعية عند وجود أشخاص آخرين غير عوائلهم، أو عند تواجدهم في بيئة تُشعرهم بالتوتر والضغط النفسي.

وبما أن طرق التعبير عن القلق تختلف عند الأطفال، فقد يلتزم بعضهم الصمت تمامًا مع عدم القدرة على الحديث أو التواصل مع أي شخص في أي تجمع، أو يقفون بلا حراك أو يتخذون مكانًا بعيدًا ومنزويًا للجلوس فيه، بينما قد يتمكن أطفال آخرون من التحدث إلى أشخاص بعينهم، أو يهمسون بالكلام بدل التحدث بنبرة طبيعية. 

متى يصاب الأطفال بالصمت الانتقائي ؟

يبدأ الصمت الانتقائي في الغالب في مرحلة الطفولة المبكرة، ويتم تشخيصه عادةً بين سن 2 و 8 سنوات، ويتم ملاحظته لأول مرة عندما يبدأ الطفل بالتفاعل مع أشخاص خارج أسرته، كأن يبدأ بالذهاب إلى الحضانة أو المدرسة.. كما تتم ملاحظة الاضطراب عبر أعراضه التي تظهر على الطفل وعلى قدراته الاجتماعية والتواصلية، فما هي هذه الأعراض؟

ما هي أعراض الإصابة بالصمت الانتقائي؟

ما يثير انتباه أهل الطفل المصاب عادةً هو التغيُر الملحوظ في قدرة الطفل على التعامل مع الأشخاص المختلفين، حيث يتصرف الطفل على طبيعته معهم أو مع الأشخاص الذين يألف وجودهم، بينما تختلف قدرته على التعامل مع الآخرين خارج  دائرته الاجتماعية المعتادة اختلافًا شاسعًا، حيث يدخل الطفل في حالة من السكون المفاجئ، وتتجمد تعابير وجهه عندما يُتوقع منه التحدث إلى شخص جديد أو غريب، وقد يتجنب التواصل البصري معهم، كما قد تظهر عليه الأعراض التالية: 

  • العصبية أو عدم الراحة أو التصرف بغرابة
  • الخجل والانسحاب
  • فقدان الاهتمام بالأشياء أو عدم التهذيب
  •  العبوس أو التوتر 
  • العناد أو العدوانية أو الإصابة بنوبات الغضب
  • بعض الأعراض الجسدية كالغثيان والصداع وآلام المفاصل وغيرها.

قد يُظهِر الأطفال الواثقين بأنفسهم من بين المصابين بالصمت الانتقائي تفاعلًا خفيفًا، إذ يستخدمون الإيماءات للتواصل كهز الرأس بدل قولهم “نعم” أو “لا”. يميل الأطفال الأكثر تضررًا من هذا الاضطراب إلى تجنب أي شكل من أشكال التواصل، سواء أكان بالإيماء أو التحدث أو الكتابة أو غيرها، وقد يتمكن بعض الأطفال من الهمس أو الرد ببضع كلمات.

من الضروري أن نتذكر دائمًا أن وجود أعراض مرض أو اضطراب نفسي معين عند أحد الأشخاص، لا يعني حتمية الإصابة به، فلا أحد يستطيع الجزم بذلك إلا الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي، وذلك من خلال التقييم الشامل والمهني الذي يقوم به.

ما هي أسباب الإصابة بالصمت الانتقائي والعوامل المرتبطة به؟

  • العوامل الجينية والميل للقلق

لدى أغلب الأطفال المصابين بالصمت الانتقائي قابلية وراثية لاكتساب اضطراب القلق من فرد واحد أو أكثر من أفراد الأسرة؛ ويظهر هؤلاء الأطفال علامات القلق الشديد غالبًا مثل قلق الانفصال، وصعوبة التكيُف، ومشاكل النوم، ونوبات الغضب والبكاء المتكررة، والخجل الشديد، والتقلبات المزاجية.

وإذا أردنا أن نفهم هذا الاضطراب فسيولوجيًا، فهناك فرضية تقدم تفسيرًا لمعظم أو كل الخصائص السلوكية المميزة التي يطبقها الأطفال المصابون بالصمت الانتقائي، وتنص الفرضية على أن الأطفال الذين يعانون من تقلبات مزاجية تسهل استثارة منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala) في دماغهم؛ وعند مواجهة سيناريو مخيف تتلقى اللوزة إشاراتٍ بوجود خطر محتمل (من الجهاز العصبي) وتبدأ بإطلاق سلسلة من ردود الفعل لمساعدة الفرد على حماية نفسه..

وتكون السيناريوهات المخيفة للأطفال الذين يعانون من الصمت الانتقائي هي الأماكن التي تتطلب تفاعلًا اجتماعيًا، مثل المدرسة وتجمعات الأصدقاء والزيارات العائلية وحفلات أعياد الميلاد وما إلى ذلك، أما رد الفعل الذي يطلقه دماغهم فيكون عبر الصمت الانتقائي.

  • الإصابة باضطراب في فهم المؤثرات الحسية 

عندما يكون هناك اضطراب في إدراك المعلومات التي تجمعها الحواس من البيئة المحيطة، ستكون الاستجابة لها مهمة صعبة على الطفل، فإما أن لا يبدي أي رد فعل تجاه مدخلات بعض الحواس، أو يظهر رد فعل مبالغ به تجاه مدخلات حواس أخرى، كحساسيتهم العالية للمؤثرات الصوتية أو الضوئية على سبيل المثال، أو حساسيتهم المنخفضة لها.

هذا الاضطراب يؤدي إلى قصور في فهم الطفل للآخرين وللبيئة المحيطة به إن لم يكن معتادًا عليها، مما قد يؤدي إلى صعوبة تأقلمه مع الظروف المحيطة والأشخاص الجدد والإحباط والقلق، وبالتالي انطواء الطفل وانغلاقه على نفسه وتجنبه للآخرين وانسحابه من مواقف معينة، أو إصابته بنوبات غضب، وممارسته لسلوكيات سلبية؛ ولذلك فإن وجود هذا الاضطراب يؤدي إلى إصابة الطفل باضطراب الصمت الانتقائي أيضًا. 

  • صعوبات في الكلام و اللغة

تؤدي الصعوبات في النطق والتعبير والتأخر اللغوي وصعوبة السمع عند بعض الأطفال إلى شعورهم بالقلق والخجل، مما يدفعهم لالتزام الصمت بسبب غياب الشعور بالأمان أو الشعور بالراحة في الأماكن والمواقف التي تتطلب التحدث والتواصل الاجتماعي مع الآخرين؛ ويشكّل هؤلاء الأطفال ما نسبته 20-30% من إجمالي عدد الأطفال المصابين باضطراب الصمت الانتقائي.

ننوه إلى أنه لا يوجد أي دلائل علمية تربط الصمت الانتقائي بالتعرض للعنف أو الصدمات الحياتية أو سوء المعاملة.

ما هو علاج اضطراب الصمت الانتقائي ؟

عند ترك اضطراب الصمت الانتقائي دون علاج، فإن ذلك يؤدي إلى العُزلة، وانعدام الثقة بالنفس ، والإصابة بالرهاب الاجتماعي، وقد يستمر ذلك إلى مرحلة المراهقة، ولذلك يفضَّل اكتشاف المشكلة مبكرًا والبدء بعلاجها على الفور. 

ويبدأ علاج هذا الاضطراب بالتعامل السليم معه والسعي لعلاجه بدل انتظار التعافي التلقائي منه، فأغلب الأطفال المصابين به قادرين على التغلب عليه-لحسن الحظ-، وتعتمد فعالية الخطة العلاجية على التالي: 

  • مدة إصابة الطفل بالصمت الانتقائي، فكلما طالت المدة قبل أن تتم ملاحظته وتشخيصه والبدء بعلاجه، كان تطور العملية العلاجية صعبًا. 
  • وجود  اضطرابات أخرى تتعلق بالتواصل أو صعوبات التعلم، أو اضطراب القلق.
  • مدى تعاون الأهل والأشخاص الآخرين المشمولين بالخطة العلاجية للطفل (كالأقارب أو المعلم/ة أو غيرهم).

لا ترتكز الخطة العلاجية على دفع الطفل للتحدث فقط، بل يتم التركيز على المسببات الرئيسية لهذا الاضطراب، وعلى رأسها التقليل من القلق المصاحب للتحدث. ويبدأ ذلك من خلال تخفيف الضغط الذي يشعر به الطفل عند التحدث بشكل تدريجي، بدءًا بتمكن الطفل من الاسترخاء في محيطه الاجتماعي أو المدرسة أو الحضانة، ثم التطور ليستطيع النطق بكلمة واحدة ثم تكوين جملة واحدة يخاطب بها أحد الموجودين في المكان، لينتهي الأمر إلى التحدث بطلاقة وحرية مع الجميع.

وكل تلك العملية تتطلب ما يلي: 

  • عدم إشعار الطفل بقلق الأهل والآخرين عليه.
  • عدم إحراج الطفل بأن يُطلَب منه التحدث أمام الآخرين.
  • الصبر على الطفل وعلى مراحل تحسنه دون استعجاله.
  • إقناع الطفل بأنه سيكون قادرًا على التحدث عندما يكون جاهزًا ومستعدًا لذلك، وبأن استخدام الإيماءات للتعبير هي أمر مقبول.
  • التركيز على شعور الطفل بالمرح خلال يومه والتقليل من مسببات التوتر.
  • مدح جهود الطفل المبذولة في التفاعل مع الآخرين، كمشاركة الألعاب واستخدام الإيماءات وغيرها.
  • عدم تجنب التجمعات العائلية والمناسبات وعزل الطفل عن الآخرين، وبدلًا من ذلك يجب الانتباه لما يُشعِر الطفل بالراحة في هذه الأماكن.
  • الحفاظ على الهدوء وعدم المبالغة بالانفعال عندما يتحدث الطفل، بل يتم التعامل معه كبقية الأطفال حين يتحدثون وبذات درجة الانفعال.

تتنوع طرق علاج هذا الاضطراب وفق ما يناسب الطفل المصاب به، فقد يكون العلاج الأفضل له هو أحد العلاجات التالية أو أكثر من طريقة معًا -حسب تقدير الطبيب أو الأخصائي النفسي:

  • العلاج السلوكي المعرفي ((Cognitive behavioral therapy- CBT

تكون فاعلية العلاج السلوكي المعرفي –نوع من أنواع العلاج النفسي- أكبر لعلاج المراهقين والبالغين الذين لم يُعالِجوا اضطراب الصمت الانتقائي في صغرهم، ويستهدف طريقة تفكير الفرد في نفسه وفي الحياة وظروفها والآخرين من حوله، ويعالج طريقة تأثر أفكارهم ومشاعرهم بهذه الأشياء، إضافة لتعلم طرق التعامل مع القلق والاكتئاب والخوف وغيرها من مسببات اضطراب الصمت الانتقائي.

  • العلاج السلوكي Behavioral therapy))

يسعى هذا النوع من العلاج لتحسين و تعزيز سلوكيات الطفل الجيدة واستبدال السلوكيات السيئة. 

من التقنيات المستخدمة في العلاج النفسي، تقنية التعرض التدريجي   (Graded exposure)  والتي تكون من خلال تعريض الطفل للظروف التي تسبب له القلق بشكل تدريجي، بدءًا بالتعريض الطفيف، ثم استعمال مسببات القلق الأقوى لاحقًا؛ ولضمان نجاح هذه الطريقة، يجب وضع أهداف منطقية للدرجة التي يُراد للطفل أن يصلها بأريحية، والالتزام بالتعريض المستمر المدروس.

من الممكن أيضًا استخدام تقنية أخرى تسمى بال  Stimulus fading،يتواصل فيها الطفل المصاب بالصمت الانتقائي بسهولة مع شخص ما ، مثل والديه ، عندما لا يكون هناك أي شخص آخر. ثم يتم إدخال شخص آخر على المحادثة ، وبمجرد تضمينه في الحديث ، ينسحب الوالد. يمكن للشخص الجديد تقديم المزيد من الأشخاص بنفس الطريقة حتى يُكسَر عند الطفل حاجز التواصل مع الآخرين.

تضمن أساليب العلاج النفسي أساليب أخرى متعددة: كالتعزيز الإيجابي والسلبي (Positive and negative reinforcement) و التشكيل (Shaping)  و التقليل من حساسية الطفل ((Desensitization.

  • العلاج الدوائي 

يناسب هذا النوع الفئة العمرية الكبيرة نوعًا ما كالمراهقين والبالغين، ويرتكز على علاج القلق المسبب للاضطرابات النفسية المختلفة كالاكتئاب واضطراب الصمت الانتقائي وغيرهما.

ولا بد هنا من الانتباه إلى ضرورة عدم الاجتهاد واستبدال العلاج السلوكي (الذي يعتمد على سلوكيات الطفل والبيئة المحيطة به) بالعلاج الدوائي، كما لا يجب الاستهانة بأثر العلاج السلوكي فهو جزء مهم من العلاج، ولا يتم التخلي عنه حتى في الحالات التي يصف لها الطبيب علاجًا دوائيًا.

ما هي النصائح التي نود تقديمها للأهل؟

– إخبار الطفل بمعرفتكم بأنه يواجه صعوبة في التحدث في بعض الأحيان.

-عدم الضغط على الطفل أو رشوته لتشجيعه على الكلام.

– عدم مدح الطفل علانية لتحدثه لأن هذا قد يسبب الإحراج، ولكن يفضل الانتظار حتى يكون بمفرده للمدح والمكافأة.

– إخبار الطفل بأن بإمكانه اتخاذ خطوات صغيرة عند شعوره بالاستعداد وطمأنته بأن الحديث سيصبح أسهل.

– طمأنة الطفل بأن التواصل غير اللفظي ، مثل الابتسام والتلويح ، لا بأس به لحين شعوره بتحسن في الكلام.

– عدم تجنب الحفلات أو الزيارات العائلية ، مع مراعاة التغييرات البيئية الضرورية لجعل الوضع أكثر راحة للطفل.

-الطلب من الأصدقاء والأقارب منح الطفل وقتًا للإحماء بوتيرته الخاصة والتركيز على الأنشطة الترفيهية بدلاً من حمله على التحدث فورًا.

– منح الحب والدعم والصبر.

ختامًا، إن الاعتناء بالصحة النفسية للطفل له أهمية بالغة، فما يبدأ معه في طفولته قد لا يغادره عندما يكبر، ولذلك فإن علاجه في الصغر يحميه من تبعات الاضطرابات النفسية في الكبر..

فإذا وجدت أن طفلك يعاني من مشكلة ما، وتم تشخيصه باضطراب معين، فلا تنتظر أن يختفي الاضطراب من تلقاء نفسه، وابدأ باتباع خطوات العلاج معه تحت إشراف طبيب نفسي مختص أو أخصائي نفسي. 

*** تمت الكتابة والتدقيق من قبل فريق إعداد المحتوى

المراجع: 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Email

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *